دانيل غلاتاور يتحدث إلى قراء العربية للمرة الأولى:

“أحب النهايات السعيدة”

“قصة إيمي وليو تحقق نجاحا باهرا في ثقافات مختلفة”

 

سيد غلاتاور، فلنبدأ بتنويعة أدبية على أحد أغبى الأسئلة التي لا يمل الصحفيون الرياضيون من ترديدها: كيف يشعر المرء حينما يتحول إلى كاتب بيست سيلر؟

سؤال تصعب الإجابة عليه، لأننا نعتاد على الأوضاع المريحة بسرعة جدا، ونظن أن الأمور كانت على هذا النحو دائما. بالنسبة لي، لم يأت النجاح بين عشية وضحاها، بل يمكن القول أنه تسلل إلى حياتي، وازداد من كتاب إلى آخر. كان لدي ما يكفي من الوقت حتى أتأقلم عليه. وهذا يقي من جنون العظمة. وبالطبع يغمرني النجاح وهذا العدد الهائل من القراء بمشاعر الرضا.

هل تتابع أرقام مبيعات كتبك باهتمام مَنْ يتابع عالم الرياضة وعالم المال والأعمال؟

أجل، أعترف أنني أتابعها بصفة دورية وأحللها، كما أتابع جداول مباريات كرة القدم وأحللها. فهذا هو أكثر الأمور إثارة في الجزء الثاني من مهنة الكتابة: في الجزء الأول يكتب المرء الكتاب، وفي الجزء الثاني يطلقه في السوق، ويراقب ما يَفعله وما يُفعل به. أنظر إلى هذا الأمر باعتباره نوعا من المنافسات الرياضية.

هل تتغير “الكتابة” حينما ينتظر ملايين، بدلا من آلاف، القراء الكتاب الجديد؟

لا أظن أن طريقتي في الكتابة تغيرت بسبب ذلك. لا أعرف اليوم وصفة أفضل عن كيفية الكتابة الناجحة. لو كانت ثمة قاعدة لذلك، لكان لدينا الآن كتب بيست سيلر فقط. مرة تصيب، ومرة أخرى تخيب! لا يمكننا التنبوء بذلك مطلقا. فيما يخص كتاباتي، تجد دوما حسا ساخرا ولمسة مرحة، حتى لو كانت المواضيع جادة، وسأحافظ على ذلك في المستقبل أيضا. وبغض النظر عن النجاح، حدث تغيرٌ لفت نظري: لم أعد مولعا بالتلاعب بالكلمات كما كنت فيما مضى. ربما أكون قد تطورت من كاتب تسلية إلى كاتب علاقات. كنت أهتم دوما بالعلاقات، وما يرتبط بذلك من المراقبة والوصف الدقيقين للبشر، وسيظل ذلك في بؤرة اهتمامي وعملي.

لا يحظى كاتب التسلية أو كاتب العلاقات بمكانة ذات أهمية في الوسط الأدبي النمساوي…

صحيح. كان هذا يجرحني فيما مضى. سألت نفسي لِمَ تجاهلوني على هذا النحو. لدى الصحفيين الثقافيين تصورات مثالية نخبوية عن الأدب. غالبا ما تعتبر مثل هذه الدوائر الأدبية محاولتك أن تصف شيئا بطريقة طريفة وشيقة جُرما. عن نفسي، أكن احتراما كبيرا للكتب “الذكية”، ولكن أفضل بصفتي كاتبا وقارئا الأسلوب سهل القراءة. ومسألة تجاهلي كانت لها علاقة أيضا بكوني صحفيا. لم ينظر الكثير من النقاد إليّ لفترة طويلة باعتباري كاتبا، بل باعتباري صحفيا يصدر بجانب عمله الصحفي الكتب. لا يحب الوسط الثقافي النمساوي الصحفي الذي يتجرأ ويغير “جبهته”، ويمزج الكتابة الصحفية بكتابة الأدب. وهذا يرتبط أيضا بصغر (مساحة) وضيق (أفق) بلادنا: لا يُسمح للمرء إلا بوظيفة واحدة. ويبدو أن الصحفيين الثقافيين يصابون بارتباك شديد، عندما يفعل واحد منهم ما يكتبون عنه.

أنت أحد الصحفيين القلائل الذين تضاعفت أعداد قرائهم من خلال الكتب، في حين أن الوضع معكوس لدى الآخرين، الذين يغيرون”الجبهة” أيضا، إذ نجد أنهم يصلون إلى قراء أكثر من خلال الصحف!

ربما يرجع ذلك إلى أنني ظللت، في حقيقة الأمر، وفيًّا لحرفتي. صحيح أنني كنت في صراع بسبب تغير صورتي، ولكن صنعة الكتابة لدي لم تتغير في جوهرها. ولعي بتقمص شخصيات الآخرين كان يصاحبني أيضا أثناء عملي الصحفي. هذا الولع كنت أوظفه توظيفا صحفيا واقعيا، وصرت أوظفه توظيفا أدبيا فنيا.

أليس كتابك “تيو: أجوبة من غرفة الأطفال” وكتابك الآخر “راينر ماريا يبحث عن الجنة” دليلا على أنك لا تستطيع أن تتقمص شخصيات النساء فحسب ببراعة شديدة؟

لا شك أنه من المثير لي كرجل أن أتقمص شخصية امرأة، ولكن منذ “نسيم الصبا” دُمغت بصفة “فاهم النساء”، وهذا أمر مزعج إلى حد ما. سواء نساء أو رجال أو أطفال أو حلزونات، لا بد للكاتب أن يكون قادرا على تقمص جميع شخصياته، هذا جزء من مهنته.

رغم ذلك فإن قدرتك هذه لها جاذبية خاصة، فالجزء الأعظم من قرائك من النساء. ألا تشعر زوجتك بالغيرة عندما تخلط المعجبات بينك وبين ليو لايكه؟

لحسن الحظ، لا. فهي تعرف أن هذا الإعجاب ليس موجها لشخصي المتواضع، بل لشخصيتي الروائية ليو. والأهم أنها تعرف أنني أعرف ذلك. وتتعامل بأريحية كبيرة مع الضجيج الذي يصاحب ما أعقده من قراءات وندوات. فهذا أيضا جزء من عملي. وبالمناسبة، ليو وأنا مختلفون اختلافا كليا. لا أريد أن أبدو مغرورا أو أن أدخل في منافسة معه، ولكنه أكثر خمولا مني بكثير، متردد ومتحفظ. ولا يشعر بالانطلاق الحقيقي إلا عند يشرب… حسنا ربما هذا أمر نتشارك فيه…

“نسيم الصبا” و “الأمواج السبعة” حققا نجاحا باهرا أيضا على خشبات المسرح. هل تستمع بمشاهدة ليو وإيمي في المسرح؟

أرى أن التجسيد على خشبة المسرح يمنح الشخصيتين بعدا إضافيا. مربط الفرس في هذه الحكاية ليست الحبكة بل اللغة. و اللغة المستخدمة تلاقي، لدى من يسمعها أيضا، صدى جيدا. من الأمور الطريفة أنني حصلت على جائزة الأسطونة الذهبية بعد أن بيع من الكتاب المسموع من “نسيم الصبا” 100 ألف نسخة. شاهدتُ الكثير من الممثلين وهم يؤدون إيمي وليو، منهم من كان طويلا ومنهم من كان قصيرا، ومنهم من كان بدينا ومنهم من كان نحيفا، ومنهم من كان جذابا ومنهم من كان لا يتمتع بالجاذبية، وفي كل مرة كانوا مناسبين. الشخصيات كانت مقنعة وتتمتع بمصداقية. ييدو أن الحكاية تتطور في كل عرض مسرحي تطورا يكسبها جاذبية خاصة. لم أفكر مطلقا في المسرح أثناء الكتابة، ولكنني حققت، دون قصد، الشرطين المثاليين لعرض مسرحي: شخصين وأقل القليل من الديكور!

متى تعرف أن الموضوع أو المادة أو الفكرة يصلح لأن يكون كتابا، أو عملا، كاملا؟

أعرف هذا عندما أبلغ منتصف المخطوطة تقريبا. لحسن الحظ أنني لم أدخل في طريق مسدود أبدا، ولكن من المنتصف تقريبا توجد نقطة تحول، حيث أعيد التفكير في الحكاية وغالبا ما أغير الخطة التي وضعتها في البداية. وهذا ما حدث في “نسيم الصبا” أيضا. عندما بدأت الكتابة كنت مقتنعا بأن إيمي وليو لابد أن يلتقيا. ولكن في المنتصف تقريبا عدلت عن رأيي وقررت أنه من الأفضل ألا يلتقيا.

أغضبت الكثير من القراء، وخصوصا القارئات، لأنك لم تجمع بينهما في النهاية…

والبعض الآخر غاضب لأنني جمعت بينمها في “الأمواج السبعة”. عن نفسي، أميل ميلا واضحا للنهايات السعيدة، ورغم ذلك لم تزعجني نهاية “نسيم الصبا”. صحيح أن المعجزة لم تتحقق، ولكنهما أمضيا وقتا مشتركا غاية في الجمال، وأشبعا أشواقهما المتبادلة. وحينما مضى كل منهما في طريقه، لم يكن أمرا غاية في السوء: إيمي متزوجة، وليو سيجد، حتما، امرأة تسعده! هذا ما كنت أفكر فيه، ولكن القارئات أثبتن أنني كنت مخطئا. وفي لحظة ما شعرت أنني على استعداد لكتابة جزء ثان. والآن أنا سعيد بأنني فعلتها. وسعيد لإيمي وليو أيضا. والنهاية السعيدة لا بأس بها، حتى لو احتقرني بسببها بعض “الأدباء”. النهايات السعيدة تناسبني.

هل يمكنك أن تتخيل كتابة جزء ثالث : إيمي وليو بعد عشر سنوات؟

في الوقت الحالي لا يمكنني، ولكن لا يمكن استبعاد أن يشدني هذا الموضوع يوما ما. ولو حدث وكان لابد أن تكون رواية رسائلية، فيجب أن يكونا قد انفصلا، ومن ثم يعودان إلى بعضهما البعض. لا أدري إن كان في مقدوري أن أفعل ذلك. في الوقت الحالي أفضل العمل على مشاريع مختلفة. روايتي الجديدة، التي أعمل عليها الآن، تتناول الجوانب المظلمة من علاقات الحب. أستخدم فيها تقنية الرواية البوليسية التي لم أستخدمها في كتبي حتى الآن باستثناء رواية واحدة. ورغم ذلك لابد أن يكون في الحكاية ما يُضحك، ولا ينبغي أن تنتهي نهاية سيئة. ولكنني بلغت الآن المنتصف تقريبا ولابد، كما قلت مسبقا، من إعادة التفكير في كل شيء. الأحداث تتطور بصورة لم أكن أتوقعها. أحب أن تفاجئني شخوصي!

هل ستشعر بالفشل إن هبطت أرقام مبيعات الكتاب الجديد هبوطا حادا؟

أجل، بوصفي شخصا مغرما بالأرقام لدي تصور تقريبي عن الكيفية التي يجب أن تتطور بها أرقام مبيعات كتبي: كتابيّ القادمان أو الكتب الثلاثة القادمة ينبغي أن تبيع في طبعاتها الأولى (غير الشعبية) ما بين 50 و 100 ألف، مثلها مثل كتاب “تيو: أجوبة من غرفة الأطفال”.

ولكن هذا هو الحد الأدنى…

لو كان معيار المقارنة “نسيم الصبا” و “الأمواج السبعة”، أجل، معك حق.

تُرجمت هاتان الروايتان إلى 35 لغة حتى الآن. هل حققتا ما حققته لدينا من نجاح وانتشار؟

في فرنسا، صدرت الطبعة الثالثة منذ وقت قصير، أي 55 ألف نسخة قد بيعت. وهذا رقم رائع بالطبع. وفي أسبانيا، وصلتُ إلى قائمة الأكثر مبيعا، ويوجد منها طبعة أسبانية وأخرى كتالونية. وفي كوريا الجنوبية، حيث صدرت أول ترجمة، تحقق الروايتان نجاحا باهرا. وفي لاتفيا وليتوانيا وصلتا منذ قريب إلى قائمة الأكثر مبيعا. يبدو أن الكتابين ينجحان أيضا في ثقافات ولدى عقليات مختلفة. وفي أندونسيا صدرت أيضا “نسيم الصبا”، ولكن لم أر نسخة واحدة حتى الآن. يبدو أنها فُقدت أو ضاعت في الطريق. ومن الطريف أن ترى شكل الكتابين في خارج النمسا: البلغاريون على سبيل المثال استخدموا صورة للممثلين اللذين أديا دور إيمي وليو في برلين.

هذا يعني أنك لم تعد مضطرا للكتابة من أجل كسب لقمة العيش…

صحيح، ولكن لا أحد يكتب رواية من أجل كسب لقمة العيش. وهذا يعني أنني سأواصل الكتابة غير عابئ بشيء. الشيء الوحيد الذي أفتقده أحيانا في حياتي ككاتب هو زملائي. فالصحفي يعمل بمفرده ولكن جزء من فريق. أما الكاتب فيعمل بنفسه ولنفسه. ورغم ذلك لا أتصور أن أعود مرة أخرى للصحافة. وفي المقابل يمكنني أن أتخيل أن أعمل يوما في مجال الوساطة وحل النزاعات (Mediation)، وهذا يرتبط بدوره بأحد احتياجاتي الأساسية، وهو فهم ما يدور في عقول البشر.

لو تقمصت للحظة دور الصحفي مرة أخرى: ما هو السؤال الذي يمكن أن توجهه لنفسك، ولم يوجهه أحد إليك حتى الآن؟

لا يخطر على بالي سوى سؤال مرعب، لم يتجرأ أحد من قبل على توجيه لي، لأنه أيضا في منتهى قلة الذوق. ولكنه سؤال كان يلح على ذهني في نهاية بعض المقابلات التي كنت أجريها بصفتي صحفيا. السؤال هو: هل تعتقد فعلا أنه يوجد مَنْ قد يهتم بكلامك هذا؟

عن الكاتب:

دانيل غلاتاور، من مواليد ڤيينا 1960، درس علوم التربية وتاريخ الفن. وعمل بعد تخرجه صحفيا في عدد من الجرائد النمساوية المرموقة، تنوعت مواضيع كتاباته الصحفية ما بين أخبار القضايا والحوادث، والأدب والثقافة، والحياة اليومية.  تفرغ للكتابة الأدبية بعد صدور روايتيه “نسيم الصبا” (2006) و “الأمواج السبعة” (2009). صدرت الترجمة العربية للروايتين عن مشروع كلمة في أبو ظبي.

أجرى الحوار إيرينه بروغر وغيلرد شميكل وترجمه عن الألمانية محمود حسنين

نقلا عن موقع جريدة ڤينر تسيتونغ.